انشغلت عن التدوين خلال الفترة الماضية، بسبب الكثير من المهام والأعباء التي تتطلب وقتًا لم يعد من السهل إدارته، ومن الطريف أن عودتي للتدوين من جديد تأتي لعرض لكتاب ينادي بالتصدّي لوتيرة السرعة المتزايدة التي أصبحت ملازمة للحياة الأكاديمية المعاصرة.
وعن قصة تأليف الكتاب، تذكر المؤلفتان، وهما أستاذتان جامعيتان في تخصص اللغة الإنجليزية، أنهما اطلعتا على نتائج الاستطلاع الذي أجرته الرابطة الكندية لأساتذة الجامعات حول الإجهاد المهني، في عام 2007، وصدمتا من النسبة المرتفعة للمستجيبين الذين أكد معظمهم معاناتهم من مشاكل جسدية ونفسية مرتبطة بالإجهاد، وعلقت المؤلفتان بالقول إن قراءة هذا الاستطلاع كان بمثابة “فتح نافذة، وحول تفكيرنا من السؤال: ما هو الخلل فينا؟ إلى السؤال: ما هو الخلل في النظام الأكاديمي؟”
ومع البحث في الموضوع توصلت المؤلفتان إلى نتيجة وهي أن الخلل جاء مع تحول الجامعات إلى تبني ثقافة الشركات، ومعاييرها، والسعي لتطبيقها في التعليم العالي، مما أدى لتحول في ثقافة الجامعات، ورصدت المؤلفتان جانبًا من مظاهرها؛ فمع الاتجاه القوي نحو تسليع التعليم العالي، وهيمنة المبررات الاقتصادية عليه، انحصرت الأهداف التعليمية فيما يتوافق مع معايير السوق، وأصبح ينظر للطالب على أنه عميل، وعضو هيئة التدريس ونشاطه العلمي على أنه منتَج، وتوسّع الجهاز الإداري القائم على أعضاء هيئة التدريس، وتغلغلت المهام ذات الطبيعة الإدارية والمكتبية في صميم العمل الأكاديمي لعضو هيئة التدريس، فشتتته عن دوره الأساسي في التدريس والبحث والتفكير، ويشير الكتاب إلى نقاط أخرى مهمة، منها تحول مفهوم الإنتاجية ليقاس بمقاييس كمية، لا تتوقف عن المطالبة بالمزيد، وتطغى على الاهتمامات التربوية والفكرية، وانتقال السلطة من أعضاء هيئة التدريس إلى الجهاز الإداري.
ولمواجهة هذا الانجراف الذي تقوده السرعة، يقدم الكتاب نقاشًا جديرًا بالقراءة عن دور أعضاء هيئة التدريس في تعديل مسار الجامعات من خلال تبني مفاهيم “الحركة البطيئة”. وتشير المؤلفتان أن الحركة البطيئة تحمل أبعادًا إنسانية تعيد الإحساس بالمجتمع والعيش المشترك، وتساعد على التصرف بشكل هادف، وقد تزايدت الدعوات إل تطبيقها في مناحي الحياة المختلفة. ورغم أهمية الحركة البطيئة ترى المؤلفتان أنها لم تجد طريقها للتعليم العالي رغم أنه هو الأجدر بتبني هذه الثقافة، انطلاقًا من دوره في تنمية الفكر العميق.
نحتاج نحن وطلابنا وقتًا للتفكير، وهو ليس من باب الترف، ولكنه حاسم لما نقوم به
وخلال الفصول الخمسة للكتاب تناولت المؤلفتان قضايا مهمة تتعلق بالوقت، والتدريس، والبحث والفهم، والتعاون، تنطلق جميعها من أن الضغوط المتزايدة التي يعيشها عضو هيئة التدريس وضعته في خضم أزمة زمنية تجعله يشعر بالعجز، وتؤكدان أن هذه الأزمة لا يمكن حلها من خلال تدريبات وإستراتيجيات إدارة الوقت، أو تبني عادات عمل أفضل، فمصدر المشكلة في رأيهما هو التغيرات التي طرأت على نظام عمل الجامعة، والتي تتمثل في أعباء العمل المتزايدة، والوتيرة المتسارعة، فمعظم أعضاء هيئة التدريس يعملون لساعات طويلة، وليس لديهم إلا القليل من الوقت للتفكير أو القراءة أو الكتابة، وتعلقان بالقول: “يكفي أن تطأ إحدى الجامعات لتعلم أن الجميع يدعي أنه ليس لديه وقت، إنها كارثة عالمية”.
وفيما يتعلق بالتدريس والبحث، تؤكدان على أن هذه المهام تبنى أساسًا على النشاط العاطفي، الذي يتطلب حضورًا جسديًا ونفسيًا، ودرجة عالية من التفكير والتركيز. وبلا شك فإن التسارع في وتيرة العمل والمطالبة بالإنجاز، يأتي على حساب القيمة العلمية، خاصة عندما تخضع الأفكار والعقول لضغط مستمر.
لا يمكنك إنتاج شيء جديد دون إعطاء الوقت لتجديد الأفكار.
وتؤكد المؤلفتان بأن الحركة البطيئة ذات أهمية أخلاقية، تؤثر على نظرة الفرد لذاته، ومستوى تعاطفه مع الآخرين، وتشيران إلى الإفراط في العمل يدخل الزملاء في سباق محموم يشيع الأنانية، بينما تعطي الحركة البطيئة مساحة للآخرين، وبهذا المعنى فإن التباطؤ خيار أخلاقي يؤثر في سلامة البيئة الأكاديمية.
وعن قيمة التعاون بين الزملاء ودوره في توفير مناخ عمل صحي، تؤكد المؤلفتان أن التعاون يؤدي إلى صمود أعضاء هيئة التدريس في وجه تيار السرعة، ويعطي المجال لتشارك الأفكار، والتجارب، وتخفيف الأعباء، ويقدم دعمًا إنسانيًا لا يمكن الاستغناء عنه.
Berg, Maggie and Seeber, Barbara K. The Slow Professor, Challenging the Culture of Speed in the Academy, Toronto: University of Toronto Press, 2016.
Comments (2)
لو فعلا خففنا السرعة المتزايدة التي أصبحت ملازمة للحياة الأكاديمية هل يمكننا ذلك في خضم الاعمال المكلفين بها!! ،، ينبغي ممن هم في اعلى الهرم الأكاديمي اتخاذ خطوات حاسمة وتخفيف الاعباء الإدارية على الاعضاء حتى يستطيع عضو هيئة التدريس تقديم ابحاث اجود وذات قيمة عالية لأن عمله يكمن في التدريس والبحث العلمي ،، شكرا دكتوة مها على هذه المراجعة القيمة
أتفق معك 100%، وأشكر من قلبي اهتمامك وتعليقك الواعي.