Category / قراءت

قراءت

كتاب “ذاكرة للتاريخ” رصد وثائقي لجهود المملكة العربية السعودية لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد

يعدّ تفشي وباء كوفيد ١٩ الحدث الأبرز الذي عمّت آثاره الكارثية العالم، ولفت انتباه الجميع منذ بداية انتشاره.

أعلنت منظمة الصحة العالمية في نهاية يناير ٢٠٢٠ أن تفشي فيروس كورونا يشكل حالة طوارئ صحية عامة تبعث على القلق الدولي، وأعلنت تحول الوباء إلى جائحة في يوم ١١ مارس ٢٠٢٠، ومنذ ذلك اليوم حتى الآن، لا يزال العالم في حالة استنفار لمواجهته.

بذلت المملكة العربية السعودية جهودًا استثنائية للتعامل مع هذه الجائحة، والحد من آثارها، وعايشنا جميعًا تطورات الإجراءات التي اتخذتها المملكة، ولا تزال، للخروج بأقل خسائر ممكنة.

وصلني قبل عدة أيام إهداء متميز من جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي، والإهداء هو كتاب يوثق جهود المملكة العربية السعودية في مواجهة جائحة كورونا، من إعداد وإشراف أ.د. فهد المغلوث الأمين العام للجائزة.

ابتدأ الكتاب بكلمة لمعالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، رئيس مجلس أمناء الجائزة المهندس أحمد بن سليمان الراجحي، أكّد فيها على أن المملكة العربية السعودية أثبتت أنها على قدر المواجهة وتحمّل المسؤولية، ولم تتوان في تقديم الغالي والنفيس لضمان توفير كل ما يلزم المواطن والمقيم من معيشة ودواء واحتياجات أساسية، فالإنسان هو الاعتبار الأول لحكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين.

ثم كلمة رئيسة اللجنة التنفيذية للجائزة صاحبة السمو الأميرة نوف بنت عبدالله بن محمد بن سعود الكبير، أوضحت خلالها أن جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي شرعت في رصد وتوثيق جهود المملكة في التصدي لجائحة كورونا، انطلاقًا من ضميرها الإنساني والوطني، لتقديم سجل وثائقي مشرف لمرحلة حساسة من عمر الوطن.

وفي مقدمة الكتاب ذكر الأمين العام للجائزة الأستاذ الدكتور فهد المغلوث أن ما بين “كلنا مسؤول” و “نعود بحذر” أحداث كثيرة ومؤلمة وإنجازات عظيمة تحققت للمملكة وكانت مصدر فخر ومثار إعجاب.

يتكون الكتاب من جزئين اثنين، وقرابة ألف صفحة. أعطى الجزء الأول تعريفًا بالجائحة، والبدايات الأولى لها، ووثق كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله خلال الجائحة.

وتتبّع القرارات والأوامر الملكية للتعامل مع الجائحة صحيًا، واقتصاديًا، وإنسانيًا، وجهود واتصالات خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد الأمين. ثم انتقل ليقدّم رصدًا لجهود الوزارات الحكومية كافة للتعامل مع الجائحة، في حين استكمل الجزء الثاني التوثيق، ورصد جهود الهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية والمجتمعية.

ويتميز الكتاب بمميزات عديدة، أهمها في نظري تنظيم المعلومات وفق تقسيم موضوعي، وزمني، يسهل قراءة المشهد موضوعيًا وزمنيًا، فجاء الكتاب أشبه بخط زمني مفصل، ذو بعد أفقي يستعرض تكاتف جهود المؤسسات الحكومية والأهلية والمجتمعية للتصدي للجائحة، وذو بعد رأسي يفصل الخطوات التي اتخذتها كل جهة.

كما يشكر للكتاب عنايته بتوثيق المصطلحات التي تبلورت خلال الجائحة، وارتبطت بها؛ مثل: الوباء، والجائحة، وتسطيح المنحنى، والتباعد الاجتماعي وغيرها من مصطلحات حصرها، وعرّف بها.

ابتكر الكتاب رموزًا موحّدة بمثابة مفاتيح تساعد القارئ خلال تصفح الكتاب؛ لتميز بين الإجراءات والمبادرات، والخدمات، والمنصات، وغيرها من مفاتيح تسهل القراءة، والربط بين المعلومات.

ورغم أن الكتاب بجزئيه يغطّي فترة زمنية قصيرة تمتد من شهر يناير إلى نهاية يونيو ٢٠٢٠، إلا أن المعلومات التي تضمنها تعكس أن تلك الأشهر كانت فترة حافلة بالأحداث والتطورات السريعة. كما تبيّن حجم التعاون والتنسيق بين الجهات المختلفة للتعامل مع الجائحة، والحد من آثارها.

 ستنجلي الجائحة بإذن الله، وستمر الأيام، ويصبح ما عايشناه خلالها تاريخًا، وجهودًا تستحق أن توثّق، وتروى للأجيال القادمة.

قراءت

عرض لكتاب: “الأستاذ البطيء، تحدي ثقافة السرعة في البيئة الأكاديمية” لـ: ماغي بيرغ وباربرا سيبر

انشغلت عن التدوين خلال الفترة الماضية، بسبب الكثير من المهام والأعباء التي تتطلب وقتًا لم يعد من السهل إدارته، ومن الطريف أن عودتي للتدوين من جديد تأتي لعرض لكتاب ينادي بالتصدّي لوتيرة السرعة المتزايدة التي أصبحت ملازمة للحياة الأكاديمية المعاصرة.

وعن قصة تأليف الكتاب، تذكر المؤلفتان، وهما أستاذتان جامعيتان في تخصص اللغة الإنجليزية، أنهما اطلعتا على نتائج الاستطلاع الذي أجرته الرابطة الكندية لأساتذة الجامعات حول الإجهاد المهني، في عام 2007، وصدمتا من النسبة المرتفعة للمستجيبين الذين أكد معظمهم معاناتهم من مشاكل جسدية ونفسية مرتبطة بالإجهاد، وعلقت المؤلفتان بالقول إن قراءة هذا الاستطلاع كان بمثابة “فتح نافذة، وحول تفكيرنا من السؤال: ما هو الخلل فينا؟ إلى السؤال: ما هو الخلل في النظام الأكاديمي؟”

ومع البحث في الموضوع توصلت المؤلفتان إلى نتيجة وهي أن الخلل جاء مع تحول الجامعات إلى تبني ثقافة الشركات، ومعاييرها، والسعي لتطبيقها في التعليم العالي، مما أدى لتحول في ثقافة الجامعات، ورصدت المؤلفتان جانبًا من مظاهرها؛ فمع الاتجاه القوي نحو تسليع التعليم العالي، وهيمنة المبررات الاقتصادية عليه، انحصرت الأهداف التعليمية فيما يتوافق مع معايير السوق، وأصبح ينظر للطالب على أنه عميل، وعضو هيئة التدريس ونشاطه العلمي على أنه منتَج، وتوسّع الجهاز الإداري القائم على أعضاء هيئة التدريس، وتغلغلت المهام ذات الطبيعة الإدارية والمكتبية في صميم العمل الأكاديمي لعضو هيئة التدريس، فشتتته عن دوره الأساسي في التدريس والبحث والتفكير، ويشير الكتاب إلى نقاط أخرى مهمة، منها تحول مفهوم الإنتاجية ليقاس بمقاييس كمية، لا تتوقف عن المطالبة بالمزيد، وتطغى على الاهتمامات التربوية والفكرية، وانتقال السلطة من أعضاء هيئة التدريس إلى الجهاز الإداري.

ولمواجهة هذا الانجراف الذي تقوده السرعة، يقدم الكتاب نقاشًا جديرًا بالقراءة عن دور أعضاء هيئة التدريس في تعديل مسار الجامعات من خلال تبني مفاهيم “الحركة البطيئة”. وتشير المؤلفتان أن الحركة البطيئة تحمل أبعادًا إنسانية تعيد الإحساس بالمجتمع والعيش المشترك، وتساعد على التصرف بشكل هادف، وقد تزايدت الدعوات إل تطبيقها في مناحي الحياة المختلفة. ورغم أهمية الحركة البطيئة ترى المؤلفتان أنها لم تجد طريقها للتعليم العالي رغم أنه هو الأجدر بتبني هذه الثقافة، انطلاقًا من دوره في تنمية الفكر العميق.

نحتاج نحن وطلابنا وقتًا للتفكير، وهو ليس من باب الترف، ولكنه حاسم لما نقوم به

وخلال الفصول الخمسة للكتاب تناولت المؤلفتان قضايا مهمة تتعلق بالوقت، والتدريس، والبحث والفهم، والتعاون، تنطلق جميعها من أن الضغوط المتزايدة التي يعيشها عضو هيئة التدريس وضعته في خضم أزمة زمنية تجعله يشعر بالعجز، وتؤكدان أن هذه الأزمة لا يمكن حلها من خلال تدريبات وإستراتيجيات إدارة الوقت، أو تبني عادات عمل أفضل، فمصدر المشكلة في رأيهما هو التغيرات التي طرأت على نظام عمل الجامعة، والتي تتمثل في أعباء العمل المتزايدة، والوتيرة المتسارعة، فمعظم أعضاء هيئة التدريس يعملون لساعات طويلة، وليس لديهم إلا القليل من الوقت للتفكير أو القراءة أو الكتابة، وتعلقان بالقول: “يكفي أن تطأ إحدى الجامعات لتعلم أن الجميع يدعي أنه ليس لديه وقت، إنها كارثة عالمية”.

وفيما يتعلق بالتدريس والبحث، تؤكدان على أن هذه المهام تبنى أساسًا على النشاط العاطفي، الذي يتطلب حضورًا جسديًا ونفسيًا، ودرجة عالية من التفكير والتركيز. وبلا شك فإن التسارع في وتيرة العمل والمطالبة بالإنجاز، يأتي على حساب القيمة العلمية، خاصة عندما تخضع الأفكار والعقول لضغط مستمر.

لا يمكنك إنتاج شيء جديد دون إعطاء الوقت لتجديد الأفكار.

وتؤكد المؤلفتان بأن الحركة البطيئة ذات أهمية أخلاقية، تؤثر على نظرة الفرد لذاته، ومستوى تعاطفه مع الآخرين، وتشيران إلى الإفراط في العمل يدخل الزملاء في سباق محموم يشيع الأنانية، بينما تعطي الحركة البطيئة مساحة للآخرين، وبهذا المعنى فإن التباطؤ خيار أخلاقي يؤثر في سلامة البيئة الأكاديمية.

وعن قيمة التعاون بين الزملاء ودوره في توفير مناخ عمل صحي، تؤكد المؤلفتان أن التعاون يؤدي إلى صمود أعضاء هيئة التدريس في وجه تيار السرعة، ويعطي المجال لتشارك الأفكار، والتجارب، وتخفيف الأعباء، ويقدم دعمًا إنسانيًا لا يمكن الاستغناء عنه.

Berg, Maggie and Seeber, Barbara K. The Slow Professor, Challenging the Culture of Speed in the Academy, Toronto: University of Toronto Press, 2016.

قراءت

كتاب How to Write a Lot

أشرت في تدوينة سابقة نشرتها في تاريخ 7 سبتمبر 2020 وعنوانها إستراتيجيات مقترحة للكتابة إلى كتاب كيف تكتب الكثير How to Write a Lot، ووصلتني اقتراحات بتقديم عرض لهذا الكتاب.

والكتاب المشار إليه هو للمؤلف الدكتور باول سيلفيا Paul J. Silvia أستاذ علم النفس في جامعة نورث كارولينا، وطبع الكتاب للمرة الأولى في عام 2005، ثم طبع مجددًا مع بعض الإضافات عام 2019، وهي الطبعة التي بين يديّ الآن.

يقدم الكتاب طرحًا مختلفًا عن كتب مناهج البحث العلمي، فبينما تركز الأخيرة على خطوات البحث العلمي، يقدم كتاب  How to Write a Lotدليلًا عمليًا على أساليب الكتابة الأكاديمية المنتجة، مع ملاحظة أن مفهوم الكتابة لدى المؤلف أوسع من مجرد طباعة الكلمات.

يستعرض الكتاب العديد من الأمثلة الواقعية لما قد يواجهه الباحثون من صعوبات خلال الكتابة.

ويتميز الكتاب بصغر حجمه، وسهولة قراءته، مع فائدة كبيرة يخرج بها القارئ.

يفرق المؤلف بين البحث والكتابة، ففي حين يعد البحث أمرًا ممتعًا لا يخلو من المغامرة، يرى المؤلف أن الكتابة أمر مختلف، فهي عمل صعب، ومعقد، فمناقشة الأفكار في الذهن أسهل من تحويلها إلى أفكار مكتوبة، ومترابطة، ويعلق قائلًا:

حين نتحدث عن أفكارنا فإننا نبدو متحمسين، ومستمتعين وأكثر حيوية، ولكن حين نحاول الكتابة، يتغير الأمر…

يؤكد أن الكتابة الأكاديمية تظل مهارة قابلة للتطوير، وليست موهبة فطرية يولد بها الإنسان، فلذلك يركز على مساعدة الباحث لبناء عادات إيجابية تمكنه من الكتابة.

يقدم أمثلة على الأسباب التي تحول بين الباحث والكتابة، فأولها في نظره اعتقاد الباحث أنه لا يجد الوقت الكافي للكتابة، ويرى أن تجاوز هذه المشكلة ممكن بحل بسيط، وهو: أن يعمل الباحث على إيجاد هذا الوقت، من خلال تحديد وقت ثابت ومنتظم للكتابة، ومن ثمّ الالتزام به، وهو مفتاح الكتابة المنتجة في نظره.

ويذكر كذلك أن بعض الباحثين يعتقد أنه بحاجة إلى شيء من الإلهام قبل أن يبدأ الكتابة، ويعلق على هذا بالقول بأن الإلهام مهم، إلا أنه لن يحدث فجأة، وأن الباحث بحاجة للبدء لتتولد لديه الأفكار الملهمة، ويرى أن الصديق الأفضل للباحث هو الانتظام في الكتابة، وليس انتظار الإلهام.

ومن الحجج التي تحول بين الباحث والكتابة اعتقاده بأنه يجب عليه أن ينهي كل الأعمال ثم يتفرغ للكتابة، وهذا في نظره أمر غير ممكن، نظرا لطبيعة الحياة الأكاديمية التي تتطلب إنجاز العديد من الأعمال في وقت واحد، فكلما فرغ من مهمة، سيجد أمامه مهمة أخرى، فلذلك ينصح الباحث بتصميم جدوله الأسبوعي ليتضمن وقتًا مخصصًا للكتابة، مثلما يتمكن من تخصيص وقت للمهام الأخرى.

كما يقدم أمثلة على الأساليب التي تعين الباحث للمضي في الكتابة، ومنها: اختيار الوقت المناسب للكتابة، والدفاع عنه، وعدم السماح لأحد بأن يستقطعه أو يضيعه منه. كما يؤكد على نقطة مهمة، وهي تتعلق بعدم الانقطاع عن البحث قبل إنهائه، حتى يبقى الموضوع حيًّا في ذهنه، فالانقطاع لا يضيع الوقت والملفات، بل يضيع الأفكار كذلك.

ومن النصائح المهمة التي قدمها، أن يضع الباحث أهداف محددة ومركزة، وأولويات ويعمل على تحقيقها.

ويوضح الكتاب نقطة مهمة لكل باحث، وهي ضرورة أن يتحلى بالصبر، فتطور الكتابة يحتاج فترة من النضج الذي لا يتحقق إلا من خلال الممارسة، ويطمئن الباحث بأن المشاعر المتنوعة التي يشعر بها خلال الكتابة، من يأس، أو إحباط، هي مشاعر طبيعية، لا بد أن يعمل على تجاوزها من خلال الاستمرار، فالكتابة، حسب وصفه، تكون في بعض الأيام ممتعة، وأحيانًا محبطة وشاقة، وأحيانا يكتب الباحث بحماس، ويقطع شوطًا كبيرًا، وفي بعض المرات يصعب عليه أن يكتب جملة، ولكن الأهم ألا يتوقف.

كما ضم الكتاب فصولًا، تتضمن نصائح لتهيئة البحث للنشر في المجلات العلمية، وإرشادات لكتابة المقترحات البحثية بشكل احترافي.

وأخيرًا، فالكتاب مفيد، وخفيف الظل، ويترك القارئ في حالة من الأمل، والتشوق للكتابة والإنجاز.

قراءت

الأوبئة والشعوب

للتاريخ طريقته الخاصة في التفاعل مع الأحداث المعاصرة؛ فيعيد البحث في تجارب إنسانية سابقة تعكس مشكلات واهتمامات قائمة. واليوم، تعد الأوبئة من أبرز القضايا التي نعيشها ونتفاعل معها، ولذلك وجدت من المناسب أن أعرض لكم كتابًا قرأته خلال الفترة الماضية، وهو كتاب: الأوبئة والشعوب، للمؤرخ الأمريكي ويليام ماكنيل.

صدر الكتاب أول مرة في عام 1976م، في الولايات المتحدة، خلال فترة مهمة من تاريخ الصراع بين الإنسان والأوبئة، فقد شهدت تلك الفترة تفوق العلم، وأسهمت الاكتشافات العلمية، واستراتيجيات تطوير الصحة العامة، وتحسين مستوى المعيشة في القضاء على العديد من الأوبئة، أو الحد من آثارها الفتاكة خاصة في الدول ذات النظام الصحي المتقدم.

لم يكن ماكنيل هو الأول في البحث عن تأثير الأوبئة على الإنسان عبر التاريخ، لكن كتابه حقق شهرة كبيرة، باعتماده على منهج البحث التاريخي، لدراسة قضية قد تبدو في البداية بعيدة عن مجال اهتمام التاريخ.

وخلال الكتاب سعى المؤلف لتقديم تفسير جديد لأحداث التاريخ، من خلال الالتفات إلى علاقة الإنسان وتفاعله بما حوله من عوامل بيئية واجتماعية وجغرافية ومناخية، واعتبارها عوامل مهمة أسهمت في تحديد مصيره.

يتكون الكتاب من ستة فصول، إضافة إلى المقدمة والخاتمة. بدأ الكتاب بمناقشة أنشطة الإنسان في بداية حياته، ثم انتقل إلى استقرار الإنسان ونمو المجتمعات في فجر التاريخ، والعوامل التي أسهمت في ظهور الأوبئة وتأثيراتها في منطقة أوراسيا خلال فترة طويلة تمتد من 500 ق. م إلى 1200 م، ثم ينتقل ليناقش أثر المغول في تغيير مسار الأوبئة خلال الفترة 1200-1500م، ثم انتقال الأوبئة عبر المحيطات خلال الفترة 1500-1700م، ثم يختم بالأثر الذي أحدثه تطور العلوم الطبية منذ القرن الثامن عشر.

وحول علاقة الإنسان مع الأوبئة، يتتبع الكتاب هذه العلاقة ويعود بها إلى زمن بعيد، ليؤكد فكرته حول أثرها العميق على الإنسان.  

ناقش الكتاب مسببات الأمراض، وعلاقتها بحياة الإنسان الاجتماعية، منذ فجر التاريخ، وتطرق في هذا إلى أنشطة الإنسان وأسلوب حياته، من صيد وتنقل إلى استيطان وزراعة، ثم  إلى التجارة والحروب التي اكتسحت أجزاء واسعة من سطح الأرض في فترات زمنية مختلفة، ويرى المؤلف أن الأوبئة استوطنت في بداية تاريخ الإنسان في بقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها البعض على مساحة واسعة من العالم، ثم أسهم تطور وسائل المواصلات في التقريب بين هذه البقع، بمعنى أن الأوبئة انتقلت مع تنقل الحشود البشرية الكبرى عبر القارات، ثم يؤكد أن الأوبئة أسفرت عن تغيرات في البنى السياسية والاجتماعية أينما حلت.

وقدم خلال كتابه العديد من الأمثلة عن الأوبئة، التي توزعت عبر مدى زمني طويل، وعلى مناطق جغرافية واسعة، مثل: طاعون جستنيان الذي اجتاح أوروبا ومناطق من الشرق الأدنى، وطاعون الصين، والزهري والتيفوس في أوروبا، والجدري في المكسيك.  وغيرها. ليخرج بنتائج أهمها أن الأوبئة قد تركت أثرًا مهمًا على التاريخ البشري منذ زمن بعيد، مؤكدًا بأن العالم يتغير بعد كل موجة وباء.

والله يحفظنا وإياكم.

McNeill, William. Plagues and Peoples. New York: Anchor Books, 1998.

قراءت

حول منهج البحث التاريخي

يعد البروفيسور وليم ماكنيل William H. McNeill، واحدًا من كبار المؤرخين الأمريكيين. واشتهر باهتمامه بالتاريخ العالمي، والمشتركات الإنسانية[1]. وتعد مؤلفاته نقطة مهمة انطلق منها العديد من الباحثين من بعده.

برز اسمه نتيجة آرائه التي تؤكد الالتزام بكتابة تاريخ علمي حقيقي، يضبطه منهج صارم، يقوم على تحري الدقة، وفحص المصادر، والتخلص من العوامل والمؤثرات الشخصية التي تؤثر على الحقيقة؛ مما سيؤدي إلى إعادة الاعتبار للتاريخ، ووضعه على قدم المساواة مع العلوم الأخرى.

ومن العبارات المختصرة، التي أثرت عن ماكنيل، أنه وخلال مؤتمر عقد في جامعة أوهايو في شهر مايو 1994، طُلب منه أن يشرح منهجه في كتابة التاريخ، أمام عدد من الباحثين في مجالات الفيزياء، والأحياء، والاجتماع، فقال:

“إذا لفتت مشكلة ما اهتمامي، فإنني أبدأ بالقراءة عنها، وفي كل مرة أقرأ فإني أعيد صياغة المشكلة، وبالتالي أتجه للقراءة من جديد وفق التعريف الجديد، وفي كل مرة أقرأ، أعيد صياغة المشكلة، ومن ثم أعيد توجيه القراءة بشكل أكثر تحديدًا، وهكذا مرة بعد مرة، حتى تستقيم الفكرة، ثم أكتبها، وأرسلها للنشر”.  

وعلى الرغم من بساطة الطرح الظاهرية لهذه العبارة، إلا أنها أكدت على الطريقة العلمية لكتابة التاريخ. وقد لفتت آراء ماكنيل اهتمام الباحثين، وناقشها العديد منهم، باعتبارها رؤية تجديدية وتطويرية في مجال البحث التاريخي،

Gaddis, John Lewis. The Landscape of History: How the Historians Map the Past. London: Oxford University Press, 2002.

King, Gary, and others. Designing Social Inquiry: Scientific Inference in Qualitative Research, Princeton: Princeton University Press, 1994.

McNeill, William. Plagues and Peoples. New York: Anchor Books, 1998.


[1] خلال مسيرته العلمية الطويلة، قدم ماكنيل العديد من المؤلفات والدراسات التي طرحت موضوعات جديدة، تتسم بالعناية بالبعد الإنساني والعالمي للتاريخ، ومن أهم مؤلفاته:

صعود الغرب، تاريخ المجتمع البشري.

The Rise of the West: A History of Human Community, 1963

الأوبئة والشعوب.

Plagues and Peoples, 1976.

السعي وراء القوة، التقنية، والقوة والمسلحة والمجتمع منذ عام 1000

Pursuit of Power: technology, Armed Force and Society since 1000 A.D., 1982.

قراءت

قراءة في كتاب “عمل عميق قواعد لتحقيق نجاح مركز في عالم مشتت”

أقرأ معكم من خلال مدونتي اليوم كتابًا أعتبره كتابًا مميزًا، بل ومن الكتب الجميلة والمحببة إلى نفسي، وهو كتاب بعنوان: عمل عميق، قواعد لتحقيق نجاح مركز في عالم مشتت، لكال نيوبورت.

الجميل في الكتاب أنه يشارك بسخاء نصائح، وإرشادات ساعدته شخصيًا على تحقيق النجاح والتميز العلمي والمهني

وأبدأ معكم من العنوان، فقد ابتكر المؤلف مصطلح (العمل العميق) وكتب حوله بعض المقالات على مدونته https://www.calnewport.com/blog/ ثم طور هذا المفهوم خلال هذا الكتاب.

يوضح نيوبورت أن كتابه له هدفان، الأول هو إقناع القراء بأن نظرية العمل العميق صحيحة، والهدف الثاني هو تزويد القراء ببعض الإرشادات التي تساعد في تطوير عادات عمل إيجابية تساعدهم في تحقيق التميز.

ويؤكد على أهمية العمل العميق بالقول أن العمل العميق ليس مهارة عتيقة قليلة القيمة، بل هو مقدرة مهمة لأي فرد يتطلع إلى التقدم.

فما هو العمل العميق من وجهة نظره؟

يعرفه نيوبورت بأنه الأنشطة المهنية التي تؤدى في حالة من التركيز المتواصل الذي يدفع قدرات الفرد المعرفية إلى أقصى مدى.  وعلى العكس منه يقدم تعريفًا للعمل السطحي، فهو المهام التي لا تتطلب معرفة، وذات طابع لوجستي، وتؤدى في أثناء تشتت الذهن.

ويقوم الكتاب على فكرتين:

الأولى: هي أن العمل العميق مهارة سينتج عن تطبيقها فوائد هائلة على المستوى الشخصي والمهني.

الثانية: أن إتقان العمل العميق ممكن من خلال اتباع إرشادات عملية تساعد في تطوير هذه المهارة.

ينقسم الكتاب إلى قسمين:

الأول بعنوان: الفكرة، ويلخصها في أن العمل العميق ذو قيمة، ونادر، وهادف.

أما الثاني فهو القواعد، وهي: العمل بعمق، وتقبل الملل، والامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيرًا الحد من السطحية.

خلال الكتاب يشارك نيوبورت بسخاء وكرم تجربته الشخصية مع العمل العميق، فعلى الرغم من انخراطه في الحياة الأكاديمية بكل التزاماتها، والتزامه بالحياة الأسرية بتفاصيلها العديدة، إلا أنه تمكن من تحقيق أهدافه في التأليف والبحث والتدريس ومشاركة الخبرة مع الآخرين، وحول هذا يقول: “كافأني التزامي بالعمق بالعديد من الإنجازات رغم أني كنت نادرا ما أعمل حتى الخامسة أو السادسة مساء. لقد بذلت جهدا كبيرا في تقليص السطحية في حياتي، والاستفادة القصوى من الوقت المتوافر، فأنا أخطط لأيامي على أساس العمل العميق، إضافة إلى الأنشطة السطحية الضرورية… إن أيام التركيز المتواصل تؤتي الكثير من الثمار القيمة”.

ومن الأمور التي شدتني في الكتاب النماذج العديدة التي قدمها لأناس ناجحين تمكنوا من التغلب على التشتت، وأنجزوا أعمالهم بسلام وإتقان.

ومن النماذج التي تحدث عنها الكتاب البروفيسور آدم جرانت، وهو الأستاذ الأعلى في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، وحاصل على جوائز تدريسية وبحثية متعددة، واشتهر بإنتاجه العلمي الغزير، وتميزه البحثي، ومع ذلك كان منفتحًا ومعطاءً، مانحًا الكثير من وقته لمساعدة الآخرين، وشرح منهجه في كتابه الشهير: الأخذ والعطاء. فكيف تمكن جرانت من تحقيق هذا القدر من النجاح، إلى جانب العطاء المستمر؟ الجواب باختصار أنه تمكن من اتباع أسلوب يقوم على العمل العميق، إلى جانب الإيمان بقيمة مشاركة المعرفة كإستراتيجية رئيسة في التقدم المهني.

من النماذج التي قدمها نيوبورت كذلك، طالب دكتوراه يسمى برايان تشابيل، فخلال دراسته للدكتوراه التحق بعمل بدوام كامل، فضلا عن أنه رزق بطفله الأول خلال تلك الفترة، ورغم هذه الالتزامات إلا أنه تمكن من التغلب عليها، من خلال الالتزام بالعمل العميق على رسالته العلمية في الصباح الباكر ما بين الخامسة والسابعة والنصف صباحًا من كل يوم.

وخلال فصل الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي شارك المؤلف العديد من التجارب لأشخاص تمكنوا من الحد من تأثير وسائل التواصل على أعمالهم، واختاروا العمل العميق الذي ساعدهم على الإنجاز، ومن التجارب الطريفة والملهمة التي ذكرها تجربة الكاتب “باراتوندي ثورستون” الذي قرر أخذ فترة راحة من وسائل التواصل، وقرر الانفصال عن حياته على الإنترنت لمدة خمسة وعشرين يومًا، ثم كتب عن تجربته في مقالة افتتاحية لمجلة فاست كومباني، وعنوان المقالة: “غير متصل”، والفائدة من تجربته أنها كشفت له أن وسائل التواصل تستنفد الوقت، وتقلل القدرة على التركيز، وتجعل الإنسان في حالة من التشويش، ولذلك فمن أجل إتقان فن العمل العميق لا بد من السيطرة على الوقت، والحفاظ على التركيز بعيدا عن الملهيات العديدة التي تنطوي عليها وسائل التواصل.

ويختم نيوبورت كتابه بمقولة مقتبسة تقول: “سوف أعيش حياة عميقة؛ لأنها أفضل أنواع الحياة”.

قراءت

قراءة لكتاب مفهوم التاريخ لعبدالله العروي

أستعرض معكم اليوم كتاب #مفهوم_التاريخ للدكتور عبدالله العروي، والكتاب يهم الباحثين في التاريخ ومناهجه، والرؤية الحديثة لمصادر التاريخ، وتفسيره. والنسخة التي ستستعرضها التدوينة اليوم هي النسخة الصادرة تحت عنوان: الأعمال الكاملة، مفاهيم، مفهوم التاريخ، ونشرت في عام 2017 عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء، في المملكة المغربية في 512 صفحة.

يتناول المؤلف التاريخ من زاوية كونه علمًا وصناعة، وليس التاريخ كمجموع حوادث الماضي، ويؤكد أن هدفه من الكتاب هو:

“وصف ما يجري في ذهن رجل يتكلم عن وقائع ماضية، من منظور خاص به، تحدده حرفته داخل مجتمعه”.

يهدف الكتاب إلى إيصال رسالة، وهي أن التاريخ لا يهم المؤرخ وحده، وإنما يهم المجتمع ككل

قسم الكتاب إلى جزءين، إضافة إلى جزء خاص بالمراجع والفهارس. احتوى الجزء الأول، وعنوانه الألفاظ والمذاهب على مدخل، وأربعة أقسام، هي: تساؤلات تمهيدية ناقش فيها تصوره للتاريخ، والمؤرخ، ثم انتقل إلى القسم الثاني وعنونه بـ: مفاهيم، استعرض فيها المقصود بالحدث، والشواهد، والنقد. أما القسم الثالث، تاريخيات، فخلال عشرة فصول استعرض المناهج والمقاربات العديدة لدراسة التاريخ، ثم ناقش في القسم الرابع المنهج الإسلامي في دراسة التاريخ، وناقش كذلك الاستشراق وانعكاسه على دراسة التاريخ الإسلامي.

في الجزء الثاني وعنوانه المفاهيم والأصول، يناقش منطق المؤرخ في خمسة فصول، ومنطق التاريخ في أربعة فصول، يؤكد خلالها على دور المؤرخ في مجتمعه، ويقدم خلاصة مفادها:

“أن التاريخ موحد نظريا، ونظريا فقط، يقول به ويعمل في ضوئه مؤرخ يعيش في مجتمع معين. التاريخ المشتت يتوحد في مفهوم، لكن المفهوم الواحد لا يلعب الدور نفسه في كل المجتمعات”.

ويؤكد على أن المؤرخ والتاريخ يؤديان دورًا مختلفًا في كل مجتمع، وذلك بناء على التفاوت القائم بين المجتمعات.

يختم المؤلف كتابه مؤكدًا ما ذكره في البداية، وهي أهمية التاريخ في المجتمع، فهو منبع التجديد إذا عمّ الجمود، وهو ضابط المحافظة إذا عمّ التغيير، ويرى أن التاريخ يواجه الخطر، وشرح ذلك قائلًا:

“… إنه دائمًا في خطر، خطر الذوبان في التقليد فيصبح محفوظًا غير مفهوم، وخطر الذوبان في حاضر يتطلع باستمرار إلى مستقبل متجدد”.

يفتح الكتاب العديد من النوافذ لمناقشة قضايا محورية في علم التاريخ، ودور المؤرخ، ومنهج قراءة التاريخ، وكتابته، وتقديمه والاستفادة منه في فهم الحاضر، واستشراف المستقبل. ويعطي الكتاب فرصة للباحث في التاريخ أن يراجع ذاته، ويراجع منهجه، ويطرح أمامه تساؤلات مهمة عليه التفكير فيها قبل الشروع في البحث.

ويتميز الكتاب كذلك بالكم الكبير من المراجع العربية والأجنبية التي ناقشها المؤلف لتأكيد نظريته، وهي ذات فائدة كبيرة إذ أنها تحث القارئ على الرجوع إليها، للاطلاع والاستزادة، خاصة أنها كتبت باللغة العربية في جميع الاستشهادات، ووضعت بلغاتها الأصلية في قائمة المراجع.

الكتاب يضم مادة غزيرة وثرية، ولكن القارئ، في نظري، يواجه تحديًا يكمن في الأسلوب الصعب، والعبارات المعقدة إلى درجة تتطلب القراءة المتأنية، والتفكير مليًا خلال الانتقال بين صفحات الكتاب.

وباختصار

ينادي الكتاب بتجديد النظرة إلى التاريخ، وإزالة التداخل بين مفهوم التاريخ كحدث ماضٍ، ومفهوم التاريخ كعلم أصيل، له مناهج وقواعد ضابطة، يلتزم بها المؤرخ بشكل صارم.